فصل: باب: إِذَا أَرَادَ بَيعَ تَمْرٍ بِتَمْرٍ خَيرٍ مِنْه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ البَيعِ وَالشِّرَاءِ مَعَ النِّسَاء

رُوِيَ عن مالك‏:‏ أن المرأةَ لا تَمْلِكُ أن تتصرَّفَ في نفسها أيضًا إلا بإِذن زوجها، فيمكن أن يكون إشارةً إليه‏.‏

2155- قوله‏:‏ ‏(‏اشترِي وأَعْتقِي‏)‏، وفي بعض الألفاظ‏:‏ «واشْترِطِي»، ففيه إشكالٌ‏.‏ والجوابُ‏:‏ أن معناه دعيهم لَيَشْتَرِطُوا، كما هو في البخاري‏.‏ وهذا أيضًا من معنى الأمر، وإن لم يَذْكُرْه أربابُ اللغة‏.‏ وكان مهمًا، فإن الأمرَ قد يكون لإِبقاء الفِعْلِ أيضًا لا لإِنشائه، كما في قصة قراءة أسَيْد بن حُضَيْر- سورة الكهف ‏:‏ اقرأ يا ابن حُضَيْر، أي استمرَّ على قراءتها‏.‏ وترجمته ‏(‏رهتاره‏)‏، وأشار إليه ابن القيِّم في «بدائع الفوائد»‏.‏

2156- قوله‏:‏ ‏(‏حُرًّا كان زَوْجُها أَوْ عَبْدًا‏)‏، والرواياتُ فيه مُضْطَرِبةٌ، فإن ثَبَتَ أنه كان حرًّا حين عُتِقَتْ بَرِيرَة، يكون حُجَّةً لنا في خِيَار العِتْقِ‏.‏ وإن لم يَثْبُت، فلا يَضُرُّنا أيضًا، كما أنه لا تبقى حُجَّةٌ‏.‏ وعلَّله صاحب «الهداية»‏:‏ أن العِتْقَ مُسْتَلْزِمٌ لزيادة ثبوت المِلْكِ عليها، لأنها تَصِيرُ الآن مُغَلَّظةً بالثلاث، بخلافها قبله، فإن تَغْلِيظَها كان بالاثنين‏.‏ واعْتَرَضَ عليه ابن حَزْم أنه كلامٌ خَالٍ عن التحصيل، لأنه إذا صارت بطلاقه مغلَّظةً، فلا فرقَ في أنها بالاثنين، أو الثلاث‏.‏

وعلَّله الطَّحَاويُّ بوجهٍ آخرَ، فقال‏:‏ فنظرنا في ذلك فرأينا الأَمَةَ في حال رِقِّها، لمولاها أن يَعْقِدَ النكاحَ عليها للحرِّ، والعبد‏.‏ ورأيناها بعد ما تُعْتَقُ ليس له أن يَسْتَأْنِفَ عليها عقدَ النكاح لحرًّ، ولا لعبدٍ‏.‏ فاستوى حكمُ ما إلى المَوْلَى في العبيد والأحرار، وما ليس إليه في العبيد، والأحرار في ذلك‏.‏ فلمَّا كان ذلك كذلك، ورأيناها إذا أُعْتِقَتْ بعد عقده مولاها نكاح العبد عليها، يكون لها الخيار في حل النكاح عليها‏.‏ كان كذلك في الحر، إذا اعتقت يكونُ لها حلُّ نكاحه عنها قِيَاسًا، ونظرًا على ما بيَّنا من ذلك‏.‏ اهـ‏.‏

وحاصلهُ‏:‏ أن للمَوْلَى ولايتَه على أَمَتِهِ قبل عِتْقِهَا في نكاحها، حرًّا، أو عبدًا‏.‏ فإذا أَعْتَقَهَا، لا تبقى له تلك الولاية، فلا يَمْلِكُ أن يَعْقِدَ عليها بُحرًّ أو عبدٍ إلا برضاها‏.‏ فظهر أن لا فرقَ بين العبد والحرِّ في باب الإِنكاح في الحالين‏.‏ فإِذا جاز له الإِنكاح، جاز من حرًّ وعبدٍ‏.‏ وإذا لم يَجُزْ، لم يجز من حرًّ ولا عبدٍ‏.‏ واتَّفَقُوا أن المَوْلَى إذا زوَّجها من عبدٍ حال رقها أن لها الخيار بعد عتقها‏.‏ فالقياس يقتضي أن يكون الحال كذلك فيما إذا زوجها من حرًّ، لأنا لم نعلم فرقًا في جواز النكاح عليها من العبد والحرِّ، وعدمه بين رِقِّها وعِتْقِها‏.‏ فإذا خُيِّرَتْ فيما إذا زوَّجها مولاها من عبدٍ، ينبغي أن تُخَيَّرَ فيما إذا زُوِّجَتْ من حرًّ، من غير فرقٍ‏.‏

باب‏:‏ هَل يَبِيعُ حاضِرٌ لِبَادٍ بِغَيرِ أَجْرٍ، وَهَل يُعِينُهُ أَوْ يَنْصَحُه

باب‏:‏ مَنْ كَرِهَ أَنْ يَبِيعَ حاضِرٌ لِبَادٍ بِأَجْر

واعلم أن الحديثَ كان مطلقًا، ثم إن المصنِّفَ خصَّصه، وجعل مورد النهي فيما إذا باع له بأجرٍ‏.‏ فلنا أيضًا أن نُخَصِّصَ حديثَ المُصَرَّاة أيضًا، لكونه قرينةً‏.‏

باب‏:‏ لا يَبِيعُ حاضِرٌ لِبَادٍ بِالسَّمْسَرَة

والحديثُ لم يَرِدْ فيه، إلا بلفظ البيع، وترجم عليه المصنِّفُ بالشراء، والبيع معًا، وادَّعى أنه مُشْتَرَكٌ بينهما‏.‏ فلعلّه اختار عمومَ المُشْتَرَكِ، كما نُسِبَ إلى الشافعيِّ‏.‏ وقال الشيخ ابن الهُمَام‏:‏ إن العمومَ لفظًا لا يُوجَدُ في اللغة‏.‏ وقال ابن تَيْمِيَة‏:‏ إنه لا يَجُوزُ، وما نُسِبَ إلى الشافعيِّ، فليس بصحيحٍ، لأنه لم يُرْوَ عنه، وإنما اسْتَنْبَطَهُ الناسُ من بعض مسائله، نحو‏:‏ من أَوْصَى لمواليه، وله مَوَالٍ من أعلى، ومَوَالٍ من أسفل‏:‏ أن الوصيةَ تكون لهما، فَزَعَم أنه ذهب إلى جواز الجمع بين معاني المُشْتَرَك‏.‏ وليس كذلك، ولكن الوَلاء ربطٌ إضافيٌّ يتحقَّق بين الأعلى والأسفل، فأُريدَ به كلاهما على طريق الاشتراك المعنويِّ، فإن اللفظيَّ لا وجودَ له في اللغة‏.‏ أمَّا ظاهرُ عبارة المصنَّف فَمُشْعِرَةٌ بالجواز، ويمكن أن يكونَ المصنِّف أيضًا أراد من البيع رَبْطًا مطلقًا بين البائع والمشتري‏.‏

وحينئذٍ، فحاصلُ الحديث عنده‏:‏ النهي عن معاملة البيع، أي هذا الربط، سواء كان بيعًا أن أضفته إلى البائع، أو شراءً إن نَسَبْتَهُ إلى المشتري، فَيَصِيرُ إذن مُشْتَرَكًا معنويًا‏.‏ قلتُ‏:‏ إن الاشتراكَ لفظًا يُوجَدُ عند الشعراء، وإن أنكره الجمهور، وهم عدُّوه من المحسِّنات، كما يقول الجامي تَعْمِيةً لاسم «علي»‏:‏

‏(‏جشم بكشازلف بشكن جان من *** بهر تسكين دل بريان من‏)‏

وحلُّه‏:‏ أن الجملةَ الأولى معناها في العربية‏:‏ افتح العين، وفتح العين‏:‏ إمَّا بفتح العين، أي آلة النظر، أو بفتح لفظ العين‏.‏ والجملة الثانية‏:‏ اكسر الشَّعْرَ الذي فيه تَثَنًّ كالَّلام، وهو أيضًا بنحوين‏:‏ إمَّا بإِصلاحه، أو بتكسير اللام‏.‏ وكذا التسكين معناه‏:‏ الاطمئنان، أو تسكين الياء التي وقعت وسط لفظ «بريان»‏:‏ محل القلب من الإِنسان‏.‏ ويَحْصُلُ منه اسم «علي»، فإنه بفتح العين، وكسر اللام، وتسكين الياء، وقد أراد الشاعرُ معنى اللفظ، ومنه حَصَلَتِ التعمية‏.‏

باب‏:‏ النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَان

صرَّح أن هذا البيع باطلٌ، وقد مرَّ مختاره‏.‏ وهو عندنا مكروهٌ، لأنه خِدَاعٌ‏.‏ وهذا أيضًا فيما إذا أضرَّ التلقِّي بأهل البلد، وإن لم يَضُرَّهم جاز بلا كراهة، وراجع كلام الطَّحَاوِيِّ‏.‏

2165- قوله‏:‏ ‏(‏حتى يُهْبَطَ بها إلى السُّوق‏)‏يعني ‏(‏جهان مندى هي‏)‏‏.‏

باب‏:‏ مُنْتَهى التَّلَقِّي

يعني إلى أين يَنْسَحِبُ النهي عن التلقِّي، فإنه لا بُدَّ للشراء من الخروج، وقد نُهِينَا عن التلقِّي، فكيف بأمر الشراء والتجارات‏.‏

2167- قوله‏:‏ ‏(‏كانوا يَبْتَاعُون الطعامَ في أعلى السُّوقِ، فَيَبِيعُونُه في مكانهم، فنهاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم أن يَبِيعُوه في مكانه حتى يَنْقُلُوه‏)‏، اه- ، فدَلَّ على أن التلقِّي إلى أعلى السوق، وخارج البلد هو المنهيُّ عنه لا غير‏.‏ ثم إن هذا صريحٌ في أن أمرَه بالنقل كان تَعْزِيرًا لهم، لأنهم كانوا يتلقُّون الرُّكْبَان لا على بيعهم بالمُجَازَفَةِ‏.‏ وإذن لا يكون النقلُ في الحديث، لأنه شرطٌ لا يجوز البيعُ بدونه، بل لأنهم إذا تلقُّوا الرُّكْبَان عزَّرهم، بأن لا يَشْتَرُوا منهم شيئًا حتى يُهْبَطَ به إلى السوق‏.‏ فافهم، وتشَكَّر، فإنه سهلٌ ممتنعٌ، قد خَفِي على الناس مع ظهوره‏.‏

باب‏:‏ إِذَا اشْتَرَطَ شُرُوطًا في البَيعِ لا تَحِل

واعلم أن البيوعَ تَفْسُدُ بالشروط الفاسدة، بخلاف النكاح، فإنه تَفْسُد فيه الشروطُ الفاسدة أنفسها، ويَصِحُّ النكاح‏.‏ وذلك لأن مبنى البيوع على المُمَاكَسَة، ومبنى النكاح على المُسَامَحة‏.‏ وذكر الفقهاء أن الشروطَ الفاسدةَ هي التي يكون فيها نَفْعٌ لأحد المُتَعاقِدَيْن، أو المبيع نفسه، ولا يَقْتَضِيهِ العقدُ، ويكون المبيعُ من أهل الاستحقاق‏.‏ وقال أحمد بالفرق بين الشرط، والشرطين، فلم يَرَ الواحدَ منها مُفْسِدًا، وأما إذا كانت اثنين فَصَاعِدًا، فإنها تُفْسِدُ عنده‏.‏ وتُفْسِدُ عندنامظلقًا من غير فرقٍ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن بيعٍ وشرط‏.‏ ونظر أحمد إلى قوله صلى الله عليه وسلّم في حديث‏:‏ «الشَّرْطَان في بيعٍ»، فجعل العدد مُحِطًّا للفائدة‏.‏

حكى ابن حَزْم في «المحلى»‏:‏ أن أبا حنيفة، وابن أبي لَيْلَى، وابن شُبْرُمة اجتمعوا مرْةً في مسجد بالكوفة‏.‏ فسأل سائلٌ أبا حنيفة عمَّن باع، وشرط شرطًا، فأجابه أن البيعَ والشرطَ فاسدان، وتمسَّك بأنه صلى الله عليه وسلّم نهى عن بيعٍ وشرطٍ‏.‏ ثم سُئِلَ ابن أبي لَيْلَى، فقال‏:‏ إن البيعَ، والشرطَ كلاهما صحيحٌ، تمسُّكًا من قصة ليلة البعير، حيث باع جابر إبله، وشرط الظَّهْرَ إلى المدينة‏.‏ وأجاب آخر‏:‏ إن البيعَ صحيحٌ، والشرط باطلٌ لقصة بريرة وعائشة في أعتاقها قلت‏:‏ والصواب ما أجاب به إما منا إن شار الله تعالى، لأن ما تمسَّكا به قصتان جزئيتان، فلا تَصْلُحَان لنقض ضابطةٍ وردت في الباب خاصةً، وهو قوله‏:‏ «نهى عن بيعٍ وشرطٍ»، مع كونها صريحةً منكشفةَ الحالِ‏.‏ بخلاف ما تمسَّكا به، فإن قصة جابر لم يكن فيه بيعٌ بعد التحقيق، بل أراد منه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إعانته لا غير‏.‏ وأمَّا قصة شراء عائشة، فأيضًا سَيَرِدُ عليك حالها، وقد عَلِمْتَ فيه بعضَ شيءٍ‏.‏

باب‏:‏ بَيعِ التَّمْرِ بِالتَّمْر

وقد مرّ أنه يُشْتَرَطُ فيه كون المبيعُ موجودًا، سواء كان في بيته، أو في مَجْلِس العقد، دون القبض بالبَرَاجم، فإن ذلك في الصَّرْف‏.‏ وفَهِمَ الناسُ أن معنى الدَّيْن عدم كونه موجودًا في مَجْلِسِ العقد، وإن كان موجودًا في الخارج‏.‏

والحاصلُ‏:‏ أن الشرطَ في الأموال الرِّبَوِيَّة التعيينُ من الجانبين، وهو المراد من قوله‏:‏ «هاءَ، وهَاءَ»، لِمَا عند مسلم في حديث عُبَادة‏:‏ «عينًا بعين»، بدل‏:‏ «هاء، وهَاءَ»‏.‏ وإنما يُشْتَرَطُ التَّقَابُض في بيع الصَّرْف، لأن الأثمان لا تتعيَّن بالتعيُّن، فلا بُدَّ له من القبض، بخلاف العروض‏.‏ وقد ورقع ههنا سَهْوٌ من بعض مُحَشِّي «الهداية»، فاختلط عليه باب السَّلَم من باب الربا، فإنهم قالوا في السَّلَم‏:‏ إنه لا يَصِحُّ إلا في أربعة أشياء‏:‏ مَكِيلٍ، ومَوْزُونٍ، ومَذْرُوعٍ، وعدديًّ مُتَقَارِبٍ‏.‏ ثم قالوا‏:‏ إن الرِّبا يَحْرُم في كلِّ مكيلٍ، أو موزونٍ‏.‏ فالْتَبَسَ عليه الأمر، فجعل السَّلَم في الأموال الرِّبَوِيَّة فقط، وهو غلطٌ فاحشٌ، فإن الرِّبا لا يجري في المَذْرُوعَات والعدديات، بخلاف السَّلَم‏.‏ ثم المفهوم من كلام المتأخِّرين جواز السَّلَم في غير الأربعة المذكورة أيضًا، فإن الاستصناعَ أيضًا بيعُ معدومٌ‏.‏ وإن لم يسمُّوه سَلَمًا، فاعلمه‏.‏

باب‏:‏ بَيعِ الزَّبِيبِ بِالزَّبِيبِ وَالطَّعَامِ بِالطَّعَام

باب‏:‏ بَيعِ الشَّعِيرِ بِالشَّعِير

باب‏:‏ بَيعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَب

باب‏:‏ بَيعِ الفِضَّةِ بِالفِضَّة

قوله‏:‏ ‏(‏الطَّعَام بالطَّعَام‏)‏، وإنما زَادَه بعد ذِكْرِ الزَّبيب، لأن له أحكامًا على حِدَة عند الشافعية، بخلافه عند الحنفية‏.‏ فإنهم وإن ذكروا للمَكِيل والمَوْزُون أحكامًا، لكن ليس عندهم لنوع الطعام بخصوصه أحكام‏.‏

2171- قوله‏:‏ ‏(‏نهى عن المُزَابَنَةِ‏)‏، وهي المُخَادعة لغةً‏.‏ وفي العُرْف‏:‏ بيعُ الثمر على النخيل بتمرٍ مَجْذُوذٍ‏.‏ ولا بُدَّ في التمر أن يكون مَكِيلا، أمَّا ما على الشجرة، فيكون مَخْرُوصًا، لا مَحَالة، وهو معنى قوله‏:‏ «أن يَبِيعَ التمر بكيلٍ»، أي بشرط كيلٍ، لا أنه ثمن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن زاد فَلِي وإن نَقَصَ فَعَليَّ‏)‏، أي إن زاد فيكون مِلْكًا لي، وإن نَقَصَ فعليَّ إيفاؤه وإعطاؤه، ولم يَذْكُر فيه العِوَض ما هو‏.‏

2173- قوله‏:‏ ‏(‏رخَّصَ في العَرَايا‏)‏ يَخْرُصها‏.‏ والأحاديثُ في العَرَايا على خمسة أنواع، والباء في قوله‏:‏ «بِخَرْصِتها» للتصوير، دون العِوَض‏.‏ فإن أخذناها للعِوَض، فالعِوَضُ مَكِيلٌ، وليس بمَخْرُوصٍ، فتعيَّن أن تكونَ للتصوير‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فَتَراوَضْنا‏)‏ أي ‏(‏هم نى بات جيت كى‏)‏‏.‏

باب‏:‏ بَيعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارِ نَسَاءًا

باب‏:‏ بَيعِ الوَرِقِ بِالذَّهَبِ نَسِيئَة

باب‏:‏ بَيعِ الذَّهَبِ بِالوَرِقِ يَدًا بِيَد

واعلم أن رِبَا الفَضْل كان جائزًا عند ابن عباس، تمسُّكًا بقوله صلى الله عليه وسلّم لا رِبَا إلا في النَّسِيئة»، فلما لَقِيَه أبو سعيد، وأخبره عن حُرْمتِهِ رَجَعَ عنه‏.‏ وأمَّا شرحُ الحديث المرفوع‏:‏ فأحدها ما ذكره الراوي، والثاني‏:‏ أن نفيَه من غيره على معنى تنزيل الناقص منزلة المعدوم‏.‏ فإن رِبَا الفضل وإن كان ربًا وحرامًا، لكنه يَقْتَصِرُ على تلك المعاملة، ثم ينتهي، فمضرَّته أهون‏.‏ بخلاف رِبَا النَّسِيئة، فإنه يجري، ثم يُضَاعف أضعافًا مضاعفةً، فمضرَّته أشدُّ وأَلْزَمُ، وهو الذي يَذَرُ البلاد بلاقع، فكأنه الفرد الكامل منه‏.‏ والأليقُ بأن يسمَّى ربا، على أنا لم نَرَ أحدًا يَبِيعُ الفضة بالفضة، والذهب بالذهب بزيادةٍ، فلا يتحقَّق فيه ربا الفضل، وإنما يُعْرَفُ فيه من ربا النَّسِيئَة‏.‏ نحو‏:‏ أن لا يكونَ عند رجلٍ فضةٌ، وهو يحتاج إلى شراء الفضة والذهب، فيذهب ويشتريه نَسِيئَةً، فهذا هو الربا الذي يجري فيما بين الناس، ولذا خصَّه بالذكر‏.‏ وهذا التوجيه أَوْلَى مما ذكره الراوي‏.‏

والحاصلُ‏:‏ أن في قوله‏:‏ «لا ربا إلا في النسيئة»، وإن كان عمومًا، لكنه عموم غير مقصود، والمراد ما قلنا إن شاء الله تعالى‏.‏

واعلم أن الغزالي تكلَّم في حُرْمة النَّسِيئَة في النقدين، ولعلَّ في باب الحلال والحرام؛ وقال‏:‏ إن الأثمانَ كانت كالمعاني الحرفية، لا تُرَادُ لذواتها، فهي آلةٌ للغير، وليست كالاسم، والفعل‏.‏ وفي ذيله شرح قول النحاة في تعريفها «معنى في نفسه» و«معنى في غيره»‏.‏ فليراجعه، فإنه أجاد فيه، وذكر ما لم يَذْكُرْ النحاة‏.‏ وملخَّصُه‏:‏ أن المرادَ من المعنى هو الغرضُ، والغرضُ يكون في نفس الاسم والفعل، بخلاف الحرف، فإنه آلةٌ فقط، ولا غرضَ منه غير الآلية‏.‏

فالذي فيه الغرضُ هو الاسم والفعل، بخلاف الحرف، فإن الغرضَ منه أيضًا لا يَظْهَرُ إلا في الاسم‏.‏ وهذا معنى قولهم‏:‏ إن الحرف، يَدُلُّ على معنىً في غيره، بخلاف أَخَوَيْهِ، فإنهما يَدُلان على معنىً في أنفسهما، لا في غيرهما‏.‏

والحاصلُ‏:‏ أن الأثمانَ كانت كالحروف، أعني الغرض منها يكون في الغير، وهو العروض، فإذا ربى فيها الناس، وأَرْبَى، فقد جعلوها عروضًا، مع كونها أثمانًا، فحرَّفوا طباعها‏.‏

فائدة‏:‏ واعلم أن ‏(‏الزيوف‏)‏ معناه ‏(‏كهتيا‏)‏ أي الناقص قيمة، و‏(‏البنهرجية‏)‏ معناه ‏(‏كهوتا‏)‏ أي المَغْشُوش، وقد الْتَبَسَ على بعضهم، فَيُتَرْجِمُون الزيوف بمعنى البنهرجية، مع أنه غلطٌ، فاعلمه‏.‏

ثم اعلم أن لفظَ البيع صار عُرْفًا عامًّا في مُبَادَلَةِ المال بالمال مطلقًا، سواء تحقَّق بصورة البيع الشرعيِّ، أم لا‏.‏ وعلى هذا، فليس النهيُ في قوله‏:‏ «لا تَبِيعُوا الذهبَ بالذهب» عن البيع خاصةً، بل عن مطلق المُبَادلة، سواء تحقَّق بطريق الإِيجاب والقَبُول المعتبران في البيع أو غيره‏.‏ فالحديثُ وَرَدَ على الحرف، والنهي عن مطلق المُبَادلة‏.‏ فطاح ما شَغَبَ به عبد اللطيف في «رسالته»‏:‏ إن المنهيَّ عنه في الحديث هو البيعُ، ولا بيعَ في الرِّبا المعروف في زماننا، فينبغي أن يكونَ جائزًا، وذلك لأنه لم يَقْدُم على فَهْم المراد‏.‏ أَلا ترى أنه لا إيجابَ، ولا قَبُولَ في باب التعاطي، لكنه إذا كَتَبَ به يَكْتُبُ أن فلانًا باع بكذا، أو فلانًا اشترى منه بكذا، بصورة الإِيجاب والقَبُول، مع انتفائهما في الخارج‏.‏ وهذا الذي مشى عليه الحديث، فإنه حَكَى عن المُبَادلة في الخارج بلفظ البيع، كالشراء والبيع في صورة التعاطي، فأهل العُرْف لا يعبِّرون عن المُبَادة إلا بالبيع‏.‏ فالمذكورُ هو هذا، والمقصودُ ذلك، فاعلمه‏.‏

باب‏:‏ بَيعِ المُزَابَنَةِ، وَهيَ بَيعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَبَيعُالزَّبِيبِ بِالكَرْمِ، وَبَيعُ العَرَايا

باب‏:‏ بَيعِ الثَّمَرِ عَلَى رُؤُوسِ النَّخْلِ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّة

والمُحَاقلة في الحبوب كالمُزَابنة في التمر‏.‏

2183- قوله‏:‏ ‏(‏لا تَبِيعُوا التمرَ حتى يَبْدُو صَلاحُهُ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وسيجيء الكلامُ فيه‏.‏

2184- قوله‏:‏ ‏(‏رَخَّصَ بعد ذلك في بيع العَرِيَّة بالرُّطَبِ، أو بالتَّمْرِ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ والظاهرَ أنه لا فائدةَ في بيع الرُّطَب بالرُّطَب، لأنه إذا كان عنده رُطَبٌ، فقد استغنى عن بيع العَرِيَّة، فإنه لأجل احتياجه إلى الرُّطَب، وهي عنده من قبل‏.‏ نعم إذا كان بالتمر، ففيه تَحْصِيلٌ للمرغوب‏.‏ فليسأل الشافعيةَ أنهم هل يجوِّزُون العَرِيَّة في الرُّطَب والأنواع كلِّها، فإن قالوا به، فذاك‏.‏ وإلا فلفظُ الراوي بالرُّطَب، إمَّا لغوٌ، أو حَشْوٌ‏.‏

واعلم أن الأحاديثَ في باب العَرَايا على عدة أنحاء‏:‏ الأول، كما مرَّ في باب بيع الزبيب بالزبيب قال‏:‏ «أن يَبِيعَ التْمر بكَيْلٍ‏:‏ إن زَادَ، فلي، وإن نَقَصَ فعليَّ»‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ «إن زاد فلي»‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، فيه من مقولة البائع، دون المشتري‏.‏ وهذا التفسير لا يَرِدُ علينا أصلا، لأنه لا ذِكْرَ فيه للعِوَض، هل هو من جنس النقدين أو غيره‏؟‏ فإن كان النقدين، فذا جائزٌ عندنا وعند غيرنا، فإنه لا بأس بشراء الرُّطَب، أو التمر بالنقدين، كَيْلا كان، أو جِزَافًا‏.‏ نعم يحتاج هذا التفسير إلى تنقيرٍ في علَّة النهي ما هي‏.‏

والثاني‏:‏ ما عن ابن عمر من طريق سالم‏:‏ «رخَّص بعد ذلك في بيع العَرِيَّة بالرُّطَب، أو بالتمر‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وهذا هو المشهور فيما بينهم‏.‏ والثالث‏:‏ ما في آخر الباب‏:‏ «رخَّص لصاحب العَرِيَّة أن يَبِيعَها بِخَرْصها»، اهـ‏.‏ ولا ذِكْرَ فيه للعِوَض، فيجوز أن يكونَ العِوَضُ النقدين، فلا يُخَالِفُنَا أيضًا‏.‏ والرابع‏:‏ ما ذكره في الحديث الأول من الباب الآتي، ففيه استثناءٌ العَرَايا من البيوع المَنْهِيَّة، وليس فيه تفسيرٌ للعَرَايا، مع إبهام الحكم أيضًا‏.‏

ثم اعلم أنهم اخْتَلَفُوا في المُسْتَثْنَى، هل فيه حكمٌ، أو لا‏؟‏ والسِّرُّ فيه أن الحكم يكون فيه بينهما، فَذَهَبَ بعضٌ إلى الإِثبات، وبعضٌ آخر إلى النفي‏.‏ قال الشيخُ ابن الهُمَام‏:‏ إن الحُكْمَ فيه في مرتبة الإِشارة‏.‏ وقال صدرُ الشريعة‏:‏ بل يكون مَنْطُوقًا، وإن لم يكن مَسُوقًا له‏.‏ أما إن الإِشارةَ هل تكون منطوقًا، أو لا‏؟‏ فذلك اختلافٌ آخرَ بين الشيخ، وصدر الشريعة‏.‏ كيفما كان، لكن الشيخ أَثْبَتَ فيه الحكم في مرتبة الإِشارة‏.‏

والخامس‏:‏ ما في الحديث الثاني من الباب الآتي، وفيه‏:‏ «رخَّص في بيع العَرَايا»، بدون حرف الاستثناء، وبدون ذكر العِوَض أيضًا، فهذه خمسةُ أنواعٍ، ولم يَخْرُجْ منها تفسيرٌ يُخَالِفُنَا، إلا ما في حديث سالم عن ابن عمر‏.‏

2191- قوله‏:‏ ‏(‏ورخَّص في العَرِيَّة أن تُبَاع بِخَرْصِهَا، يأَكُلُها أهلها رُطَبًا‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، والباء فيه للتصوير عندنا‏.‏ أمَّا قولُه‏:‏ يأكلها فبيانٌ للغرض، ولا ذِكْرَ فيه للعِوَض أيضًا‏.‏ ولكن الشافعيةَ يَحْمِلُون المواضعَ كلَّها على أن العِوَضَ فيها هو التمر‏.‏

2191- قوله‏:‏ ‏(‏فَقُلْتُ لِيَحْيَى‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وحاصلُه‏:‏ الفرق بين رواية أهل مكة، وجابر من أهل المدينة في إفراد لفظ العَرِيَّة، وجمعه، فأهل مكة يَذْكُرُونها مفردًا، وأهل المدينة جمعًا‏.‏

باب‏:‏ تَفسِيرِ العَرَايا

واعلم أن معاملات العرب بالعَرَايا كانت على عِدَّة أوجه، ذكرها الحافظُ في «الفتح»، وثلاثٌ منها مختاراتٌ للأئمة أيضًا‏.‏ فعند الإِمام الأعظم العَرِيَّةُ‏:‏ اسم لعطية ثمرة النخل على عادة العرب، فإن أهل النخل منهم كانوا يَتَطوَّعُون على من لا ثمرَ له في الموسم، ثم إذا كانوا يتأذُّون من دخول المُعْرَى له عليهم يَعْطُونَهم تمرًا آخر مكانه، ليُخَلِّي ثماره للمُعْرِي خاصةً‏.‏

وأما عند مالك، فعنه تفسيران‏:‏ أحدهما‏:‏ ما عن الإِمام الأعظم بعينه، إلا أنه خالفه في تخريجه، وجعل المُبَادلَة المذكورةَ بيعًا، واعتبره إمامُنا هِبَةً‏.‏ ثم إن المُعَامَلَةَ المذكورةَ تَقْتَصِرُ عنده بين المُعْرِي والمُعْرَى له، ولا تجري بين غيرهما‏.‏ وثانيهما‏:‏ ما في «موطئه»، وهو أن تكون لرجلٍ عدَّةُ نخلٍ في حديقةِ رجلٍ، فتحرَّج صاحبُ البستان في دخوله في الموسم، واصطلح أن يبيع ثمرة نخيله منه بكذا من التمر، لتخلص له ثمرة البستان كلِّه‏.‏ وحاصلُه‏:‏ أن العَرِيَّةَ بيعٌ عنده على التفسيرين‏.‏

وقال الشافعيُّ‏:‏ إن الناس كانوا فقراء، ليست عندهم دَرَاهِمَ ولا دنانير، فإذا جاء الموسمُ شَكُوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم مما رابهم‏.‏ فلمَّا رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلّم اشتياقَهم إلى الرُّطَب، ولا ثمنَ عندهم لِيَشْتَروا به، أباح لهم أن يَشْتَرُوا الرُّطَبَ بالتمر، ولما كانت الحاجةُ تندفع بخمسة أَوْسُق خصَّصه بها‏.‏ ولذا قال الشافعيةُ‏:‏ إن العَرِيَّةَ لا تجوز إلا في هذا المقدار، أو أقل‏.‏ ولا تجوز فيما زاد على ذلك، إلا أن تكونَ بصفقاتٍ‏.‏ فإذا كانت بصفقاتٍ، فتَجُوزُ عندهم، ولو في ألوفٍ من الأَوْسَاقِ‏.‏ ثم إنهم يَشْتَرِطُوا الكَيْلَ في التمر، والخَرْصَ في الثمر‏.‏ وذلك لأن الكَيْلَ إذا فَاتَ عنهم في الثمر، لكونه على رؤوس الأشجار، عَدَلُوا إلى الخَرْصِ، ليَقْرُبَ إلى الواقع شيئًا، ولا يبقى جِزَافًا مَحْضًا‏.‏ لأن التمرَ بالرُّطَب مُزَابنةٌ عندهم، وهي حرامٌ بالنصِّ‏.‏ وإنما أَبَاحَها الشرعُ لهم في خمسة أَوْسُقٍ خاصةً، فضيَّقُوا فيه‏.‏ ثم إن هذه المعاملة في هذا المقدار تجري بين كل رجلين، ولا اختصاصَ لها بالمُعْرِي والمُعْرَى له، كما هو عند مالك‏.‏ هذا هو تفصيل المذاهب، وتفسير العَرَايا‏.‏

أما الترجيحُ لمذهبنا، فمن أوجهٍ‏:‏ الأول‏:‏ أنه اتفق أهلُ اللغة كافةً، على أن العَرِيَّةَ من العَارِيَّةِ‏:‏ اسم لهبة ثمار النخيل‏.‏ وَوَافَقَنَا عليه صاحب‏:‏ «القاموس» أيضًا، مع كونه شافعيًا متعصِّبًا، فإنه يُرَاعي مذهبه في بيان اللغة أيضًا‏.‏ نعم هو مُعْتقِدٌ لأبي حنيفة أيضًا، وقد كان بعضُ أهل زمانه كَتَبَ رسالةً في مثالب أبي حنيفة، ونَسَبَها إليه‏.‏ فلمَّا بلغ أمرها إليه، تبرَّأ منه، وقال‏:‏ إنها افتراءٌ عليّ، وأنا أخضع دون جلالة قدره، وأمر بحرقها‏.‏ والأسفُ كل الأسف على أن داهيةَ التعصُّب قد أَلَمَّت في باب الجرح والتعديل أيضًا، فَيُسَامِحُون عمَّن وافقهم في المذهب، ويُمَاكِسُون فيمن خالفهم‏.‏ كالذهبيِّ، فإنه يُرَاعي الحنبلية، ولا يَغْفِرُ للأشعرية‏.‏ وأمَّا الحافظُ، فإنه لا يُغْمِضُ عن الحنفية، وكأنها عنده ذنبٌ ليس فوقها ذنبٌ‏.‏

وبعد، فإنهم لمعذورون، لأنه من يسمع يُخِلُّ، فإذا لم يَبْلُغْهُمْ من الحنفية إلا أنهم أصحاب بَدِعةٍ وقياسٍ، وأُشْرِبَ به قلوبهم، لم يتكلَّموا إلا ما ناسب بما أُخْبِرُوا به، ولم يتحمَّلوه إلا ما حمِّلَ إليهم‏.‏ ولكن من جرَّب الحال منهم، وحقَّق الأمر، فحاشاه أن يُطِيلَ لسانه في شأنهم‏.‏ وكفاك محمد، وأبو يوسف من تلامذته‏.‏ فأمَّا محمد، فهو الذي تخرَّج عليه الشافعيُّ، وقال فيه‏:‏ إنه كان يَمْلأُ العينَ والقلبَ‏.‏ وكان إذا تكلَّم فكأنما نَزَلَ الوحيُ‏.‏ وأمَّا أبو يوسف، فأمرُه معروفٌ، وقد قدَّمنا بعض الكلام في أوائل كتاب العلم‏.‏

وبالجملة‏:‏ إن انتهى الأمرُ إلى اللغة، فهي للحنفية خاصةً، وليس لغيرهم فيها حَظٌّ‏.‏ وراجع ما عندهم من أنواع الهِبَةُ، فإنهم سَمُّوا هِبَةَ الحيوان الحلوب‏:‏ منحةً، وهِبَة الثمار‏:‏ عَرِيَّةً، إلى غير ذلك‏.‏ وقد نقل الطحاويُّ بيتًا عن شعرائهم يَمْدَحُ الأنصار، يَدُلُّ على كونها هِبَةً، وفي النسخة سقط من الكاتب، وأنقله بعد التصحيح‏:‏

وليست بسَنْهَاءَ ولا رَجَبِيَّةٍ *** ولكن عَرَايا في السنين الجوائح

يقول‏:‏ إن أشجارَهم ليست بسنهاء التي تُثْمِرُ في سنةٍ مرةً، وليست مما تُلْقَى حولها الشِّيَاك أيضًا، ولكنها عَرَايا تُوهَبُ للمساكين عند حاجتهم، فكأنه عنى بها التصدُّق، والهِبة‏.‏ ولو كانت العَرِيَّةُ بيعًا، لم يكن فيها مدحٌ لهم‏.‏

ولنا أيضًا أثرُ زيد بن ثابت، أخرجع الطحاويُّ، قال‏:‏ «رخَّص في العَرَايا في النخلة، والنخلتين تُوهَبَان للرجل، فيبيعها يَخْرِصَها تمرًا»، فأَخْبَرَ بأن العَرِيَّة هِبَةٌ‏.‏ وزيدُ بن ثابتٍ، وما زيد بن ثابت هو مدنيٌّ، ومن أصحاب النخيل، وهو أعلم بالعَرَايا، لأن صاحبَ البيت أَدْرَى بما فيه‏.‏ أمَّا غيرُه ممن ليسوا بأصحاب النخيل، كابن عمر، فإنهم لا يُوَازُونَه في هذا الباب‏.‏ ولا أُنْكِرُ تفاسيرهم، فإنها كلَّها مَرْوِيَّةٌ عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم‏.‏

أمَّا المرفوعَ فلا مَزِيَّةَ فيه لأحدهما على الآخر، فقد عَلِمْتَ أن الباء في قوله صلى الله عليه وسلّم «بمثل خَرْصِها» للتصوير عندنا، وللعِوَض عندهم‏.‏ فقالوا‏:‏ معناه العَرَايا هي بيعُ التمر عوض الرُّطَب المَخْروصَةِ بمثلها‏.‏ وقلنا‏:‏ معناه هو البيعُ، بأن يَخْرُص الرُّطَب، فيبيعها خَرْصًا‏.‏ أمَّا العِوَض، فلم يُذْكَر في الحديث، فإن كان نقدًا، فلا خلافَ فيه لأحدٍ‏.‏ وعند الترمذيِّ في حديث العَرِيَّة‏:‏ «ونهى عن بيع كل ثمرٍ بِخَرْصِها»، مع أنه لو كان بالدينار والدراهم، جاز إجماعًا‏.‏ فالنهيُ فيه للشَّفعقَةِ بالاتفاق، فلم يَخْلُصْ الحديثُ لأحدٍ، وتُوزَنا فيه وزنَ المثقال‏.‏

ونقول أيضًا‏:‏ إن التمرَ والرُّطَبَ من الأموال الزَّبَوِيَّة، ويُنَاسِبُ فيها الإِطلاق، فَقُلْنا بالحرمة مطلقًا، ولم نُجِرْ فيها التخصيص‏.‏ وعلى هذا، فأحاديثُ النهي عن المُزَابنة على عمومها عندنا، بلا تخصيصٍ، والاستثناءُ فيها منقطعٌ، لعدم دخول العَرَايا في المُسْتَثْنَى منه‏.‏ ويَلْزَمُ على الشافعية مخالفةُ اللغة، ومخالفةُ ما عند شعرائهم فيه، ومخالفةُ أعلم رجلٍ في هذا الموضوغ، وإجراءُ التخصيص في الأموال الرِّبوية‏.‏

فإن قلتَ‏:‏ يَرِدُ عليكم استثناء العَرَايا من البيع، فإن ظاهرَه كونها بيعًا، وثانيًا الرجوع في الهِبَة، وثالثًا لا معنى لتخصيص خمسة أَوْسُق على مذهبكم، فإن هِبَةَ الخمسة والرجوعَ عنها، كهبة ألف أَوْسُقٍ، والرجوعِ عنها‏.‏ قلتُ‏:‏ أمَّا ما قُلْتَ من استثناء العَرَايَا من البيع، فقد سَمِعْتَ آنفًا أنه استثناءٌ منقطعٌ عندنا، ونزيدك إيضاحًا، فنقول‏:‏ إن العَرِيَّةَ على مذهب الحنفية استردادٌ للهبة الأولى، واستئنافٌ في الِبَة الثانية‏.‏ ولكنه تخريجٌ ونظرٌ، وليس في الظاهر إلا استبدال الرُّطَب بالتمر، ولا رَيْبَ أنه بيع حِسًّا، وإن عبَّرناه استردادًا، واستئنافًا على الأصل‏.‏ وحينئذٍ لا بِدَعَ في كونها مستثناةً من البيع، ولا حَجْر في التغبيرات والعبارات، فإنها تأتي في مبنيةً على الحسِّ‏.‏ وقد نبَّهناك مِرَارًا أنه ليس على الرُّواة إخراج العبارات كاشفةً عن تخريج المسائل أيضًا‏.‏ وإنما هم بصدد النقل المجرَّد، فَيُخَرِّجُون عباراتهم على ما سَنَحَ لهم في ذلك الحال‏.‏ وعلى هذا فالأشجار بعد العَرِيَّة إذا نُسِبَتْ إلى المَعْرَى له، كأنها مِلْكُهُ، ثم ردَّها المُعْرَى له إلى المالك، بعوضٍ من التمر، كأنه يبيعها منه، صارت صورتُها صورةَ البيع فطعًا، سواء سمَّيته استردادًا، أو هِبةً، أو ما بدا لك‏.‏ فإن الراوي لا بحثَ له من أن تخاريجك فيه ماذا‏.‏

ومن ههنا انحلت عُقْدةٌ أخرى في حديث جابر عند البخاري، قال جابر، في بيان صفة صلاته صلى الله عليه وسلّم في الخوف‏:‏ «كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم أربعٌ، وللقوم ركعتان»‏.‏ اهـ‏.‏ وهذا لا يَصِحُّ على مذهب الحنفية، وحَمْلُه على حال الإِقامة باطلٌ، كما ذكرناه في تقرير الترمذي‏.‏ وجواب الطحاويِّ نافذٌ‏.‏ والجواب على ما ظَهَرَ لي‏:‏ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم صلاها في ذات الرِّقَاع على الصفة المختارة عند الشافعية، فصلَّى بطائفةٍ ركعةً، ثم ثَبَتَ قائمًا حتى أَتَمُّوا لأنفسهم، وجاءت الأخرى، فصلَّى بهم كذلك، فاعتبر الراوي ركعته صلى الله عليه وسلّم ركعةً، ومُكْثَةُ بقدر ما أَتَمُّوا لأنفسهم ركعةً أخرى، فعبَّر عنه بالركعتين‏.‏ وكانت الركعتان في الحقيقة لمن خلفه صلى الله عليه وسلّم وإنما نَسَبَهُمَا إليه أيضًا لتأخيره بتلك المدَّة، ومُكْثِهِ فيها، فإذا تضمَّنت ركعته صلى الله عليه وسلّم ركعتيهم، تضمَّنت ركعتاه لأربعهم لا مَحَالة‏.‏ وهذا وإن كان يرى تأويلا في بادىء النظر، لكنه مُؤَيَّدٌ بما يُرْوَى عن جابر في عين تلك القصة‏.‏

فقد أخرج البخاريُّ‏:‏ عن صالح بن خَوَّات، عمن شَهِدَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم ذات الرِّقَاع صلاةَ الخوف‏:‏ «أن طائفةً صفَّت معه، وطائفةً وِجَاه العدو، فصلَّى بالتي معه ركعةً، ثم ثَبَتَ قائمًا، وأتمُّوا لأنفسهم‏.‏ ثم انصرفوا، فصفُّوا وِجَاه العدو‏.‏ وجاءت الطائفةُ الأخرى، فصلَّى بهم الركعةَ التي بقيت من صلاته، ثم ثَبَتَ جالسًا، وأتمُّوا لأنفسهم، ثم سلَّم بهم»‏.‏ اهـ‏.‏

فهذا صريحٌ في أن القومَ فَرَغُوا بعد ركعتين ركعتين، وأمَّا النبيُ صلى الله عليه وسلّم فلم يَفْرُغ عن صلاته حتى فَرَغُوا جميعًا‏.‏ فكانت لهم ركعتان ركعتان، وكانت للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم أيضًا ركعتان، كما ذكره الراوي ههنا، إلا أنه لمَّا مَكَثَ بعد ركعةٍ بقدر ركعةٍ، وانتظر القوم عبَّر عنه الراوي هناك بالركعة، وعَدَّ له أربع ركعات بهذا الطريق‏.‏ ولا بُدَّ، فإن الواقعةَ واحدةٌ، فلعلَّك عَلِمْتَ الآن حال تعبير الرواة أنه لا يُبْنَى على مسألةٍ فقهيةٍ فقط، بل يأتي على عبارات وملاحظ تَسْنَخُ لهم عند الرواية‏.‏

وأمَّا الجوابُ عن الرجوع في الهِبَةِ‏.‏ والدليلُ على أنه لا بُدَّ في قبض الثمار من الجِذَاذِ ما رواه الطحاويُّ‏:‏ «أنه لمَّا احْتَضَرَ أبو بكر قال‏:‏ إني قد كنتُ أَعْطَيْتُكَ ثمارًا في الغابة، فلو كنتَ جَذَذْتُها لكانت لك، إلا أنك ما جَذَذْتَهَا إلى الآن، فهي حينئذٍ ميراثٌ للورثة» بالمعنى ‏.‏ وبه أَفْتَى عمر‏.‏ فَدَلَّ على أن الهِبَةَ لا تَتِمُّ إلا بالقبض، وأن الثمارَ لا قبضَ فيها إلا بالُجُجِذَاذِ‏.‏

أما قولك‏:‏ إنه لا معنى لتخصيص خمسة أَوْسُق على مذهبكم، فنقول‏:‏ أمَّا أولا فكما ذكره الطحاويُّ‏:‏ أنه ليس فيه ما ينفي أن يكونَ حكمُ ما هو أكثر من ذلك، كحكمه في خمسة أَوْسُق‏.‏ وإنما يكون ذلك لو قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم لا تكون العَرِيَّة إلا في خمسة أَوْسُق، أو فيما دون خمسة أَوْسُق‏.‏ فإذا كان الحديثُ‏:‏ «أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم رخَّص في بيع العَرَايا في خمسة أَوْسُقٍ، أو فيما دون خمسة أَوْسُقٍ»، فذلك يحتمل أن يكونَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم رخَّص فيه لقومٍ في عَرِيَّةٍ لهم، هذا مقدارها‏.‏ فنقل أبو هُرَيْرَة ذلك، وأخبر الرُّخْصَة فيما كانت‏.‏ ولا ينفي ذلك أن تكونَ تلك الرخصة جاريةً فيما هو أكثر من ذلك‏.‏ اهـ‏.‏

وأمَّا ثانيًا، فعلى ما أقول‏:‏ إن المعاملةَ المذكورةَ لمَّا كانت بيعًا حِسًّا ناسب فيها التضييق، لئلا تقوم أصلا للمعاملات الرِّبَوِيَّة‏.‏ فإن الشافعيةَ أيضًا قَصَرُوها على خمسة أَوْسُقٍ، غير أنهم جعلوها استثناءً من معاملة الرِّبا حقيقةً‏.‏ ونحن قَصَرْنَاها على المقدارِ المذكور لمظنَّة جريان الربا فيما عَدَاها‏.‏ ثم لو سَلَّمْنَا أن العَرِيَّةَ هي البيعُ دون الهِبَةِ، فقد أُخْرِجَتْ لها صورة الجواز على مسائلِ الحنفية أيضًا، وهي‏:‏ أن بيع الععرِيَّة على نحوين‏:‏ الأول‏:‏ أن يقولَ‏:‏ بِعْتُ ثمارَ هذه الشجرة التي أَخْرُصُهَا خمسة أَوْسُق، بدل كذا من التمر‏.‏ والثاني‏:‏ أن يقولَ‏:‏ بِعْتُ خمسة أَوْسُقٍ من ثمار هذه الشجرة، بدل كذا من التمر‏.‏ والأول لا يجوز، بخلاف الثاني، وهو المحمل عندي‏.‏

والفرق أنه باع على الأول ثمارها خَرْصًا، فإن خرجت خمسة أَوْسُقٍ، ثم باعها منه‏.‏ فليس الخَرْصُ في الخارج، وهو لحفظه في ذهنه فقط‏.‏ فإذا أَسْلَمَ إليه يَكِيلُها لا مَحَالة، ليُسْلِمَ إليه خمسة أَوْسُق، فلا احتمال فيه للربا‏.‏ وعلى هذا لم يَرِدْ العقدُ على المَخْرُوص، بل وَقَعَ على المعيَّن،، ولا بأسَ بكون هذا المعيَّن مَخْرُوصًا في أول الأمر في ذهنه، بل هو مفيدٌ‏.‏ أمَّا في الخارج، فلا يسْلِمُ إليه إلا مكيلة‏.‏ ثم الكيلُ وإن لم يكن معروفًا في الرُّطَب فيما بينهم لتعسُّره فيها، ولكنه إذا تحمَّله على نفسه والتزمه وَجَبَ عليه أن يَكِيلَها‏.‏ حينئذٍ جَازَتْ العَرِيَّةُ بيعًا على مسائلنا أيضًا‏.‏ وجملةُ الكلام‏:‏ أن المبيعَ في العَرِيَّة عندهم مَخْرُوصٌ أولا وآخرًا، وعندنا مخروصٌ أولا، وفي الذهن فقط، ومعيَّنٌ آخِرًا، وعند التسليم‏.‏ فإن ادَّعَيْتَ بجوازها، لم يُخَالِف مسائلنا بشيءٍ‏.‏

ثم اعلم أن تلك عند أبي عُبَيْد هي التي اسْتُثْنِيَت في باب الزكاة في قوله صلى الله عليه وسلّم «ليس فيما دون خمسة أَوْسُقٍ صَدَقةٌ بعينها» فيكون عنده تفسيرًا لأربعًا‏.‏

هذا الذي أردنا إلقاءه عليك من تفسير العَرَايا، وما يتعلَّق بها، والآن نشرح ألفاظ الترجمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابنُ إدْرِيس‏)‏ المراد منه الشافعي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏العَرِيَّةُ لا تكونُ إلا بالكَيْل من التمر، يَدًا بيدٍ، ولا تكُون بالجِزَاف‏)‏، يعني به أن التمر يُعْطَى للمُعْري، ويكون مَقْبُوضًا‏.‏ أمَّا الثمارُ، فلا سبيلَ فيها إلا بالتَّخْلِيةَ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالأَوْسُق المُوَسَّقَةِ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وهو كقوله‏:‏ ‏{‏وَالْقَنَطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ‏}‏ ‏(‏آل عمران‏:‏ 14‏)‏، ففيه معنى التأكيد‏.‏ ومُقْتَضَى اللفظ كونه معاملةً من الطرفين، نحو كون الكَيْلِ من طرفٍ، والخَرْصُ من طرفٍ آخر، فحصلت التقوية، كما أراده المصنِّف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏العَرَايا نخلٌ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، والمراد به ثمار النخل‏.‏

2192- قوله‏:‏ ‏(‏رخَّصَ في العَرَايا أن تُبَاع بِخَرْصِها كَيْلا‏)‏، والبائعَ عند الشافعيِّ‏:‏ هو صاحبُ النخل المُعْرِي‏.‏ وعند أبي حنيفة، ومالك‏:‏ المُعْرَى له، غير أن بيعَه للمُعْرِي بيعٌ حقيقةً عند مالك، ومبادلةٌ، واستبدالٌ فقط عند أبي حنيفة‏.‏ فيكون بيعًا صورةً لا غير، على ما عَلِمْتَ تفصيله‏.‏ وقد مرَّ أيضًا‏:‏ أن الباء في قوله‏:‏ «بِخَرْصِها» للتصوير عندنا، والبدلُ غير مذكورٍ، فيمكن أن يكونَ الدراهمَ والدنانيرَ، كما يُؤَيِّدُه ما عند النَّسائي‏.‏ وهي عند الشافعيِّ للبدل، فيكون المَخْرُوصُ عِوَضًا، وبَدَلا‏.‏ وقد ذكرنا شيئًا يتعلَّق به في آخر كتاب المساقاة إيضًا، فراجعه‏.‏

باب‏:‏ بَيعِ الثِّمارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاحُهَا

2193- قوله‏:‏ ‏(‏فإِمَّا لا‏)‏، وهي‏:‏ إن‏:‏ شَرْطِيَّةٌ، وما‏:‏ زائدةٌ للتأكيد، ولا‏:‏ نافيةٌ، وصرَّح النحاةُ ههنا بالإِمالة في حرف النهي‏.‏

وحاصلُ معناه‏:‏ أنكم لا تترُكُوا هذه الخصومات، فلا تَبْتَاعُوا‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

2193- قوله‏:‏ ‏(‏كالمَشُورَةِ يُشِيرُ بها‏)‏، وهذا يُفِيدُنا، فإنه يَدُلُّ على أن النهيَ عن بيع الثمار قبل البُدُوِّ للإِرشاد‏.‏ وحمله الطحاويُّ على السَّلَم‏.‏ ولا يَجُوزُ السَّلَم عندنا أيضًا إلا إذا سَلِمَ من العاهات، وهو بعد البُدُوِّ لا غير‏.‏

2193- قوله‏:‏ ‏(‏حتى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا‏)‏، ومن عادة العرب أنهم إذا ذَكَرُوا طلوعَ نجمٍ، أرادوا به طلوعه المقارن للفجر، وطلوع الثُّرَيَّا يكون في الشهر المشهور في الهندية ‏(‏أساره‏)‏‏.‏ ثم إن الحافظَ ذكر ههنا روايةً عن عطاء‏:‏ «إذا طَلَعَ النجم- أي الثُّرَيَّا- رُفِعَتْ العاهةُ عن الثمار‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ، وهي من «مسند أبي حنيفة»، فَدَلَّ على اغذماده عليه، ولذا استعان به‏.‏ فاحفظه، وراجع ما قاله المْحَشِّي بين السطور- أي في النسخة الهندية ‏.‏

2195- قوله‏:‏ ‏(‏حتَّى تَحْمَرَّ‏)‏، وفي روايةٍ‏:‏ «تَحْمَارّ»؛ ومعنى الأول‏:‏ أن تَظْهَرَ فيه الحُمْرَة‏.‏ ومعنى الثاني‏:‏ كادت أن تَحْمَرَّ‏.‏ نبَّه أبو حَيَّان ‏(‏سرخ كشته باشدو مائل بسرخى كشته باشد‏)‏‏.‏

واعلم أن أرباب الصَّرْف لم يُحِيطُوا بخواصِّ الأبواب كلِّها، وإنما ذَكَرُوا شطرًا منه، وكان مهمًا‏.‏ والكُتُبُ المصنَّفةُ فيها لم تُطْبَعْ‏.‏ وأمَّا من أراد الآن أن يَتَتَبَّعَهَا، فطريقُه أن يُطَالِعَ «البحر المحيط» لأبي حَيَّان‏.‏ ومن دَأْبه أنه إذا مرَّ على بابٍ من القرآن ذكر خواصَّه أيضًا، واستوعبها‏.‏ فمن أراد ترتيب الخواصِّ، فهذه طريقته‏.‏

باب‏:‏ بَيعِ النَّخْلِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاحُهَا

أي ثمار النخل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدَّثنا مُعَلَّى‏)‏ تلميذٌ لأبي يوسف‏.‏

‏(‏صور بيع الثمار‏)‏

واعلم أن بيعَ الثمار إمَّا أن يكونَ قبل البُدُوِّ أو بعده، وكلٌّ منهما إمَّا يكون بشرط القطع، أو بشرط الترك، أو بشرط الإِطلاق، تلك ستُّ صُوَرٍ‏.‏ فذهب الشافعيُّ إلى جوازه بعد البُدُوِّ في الصُوَر الثلاث مطلقًا، كما هو مقتضى مَفْهُومِ الحديث‏.‏ وإلى عدم جوازه قبل البُدُوِّ، كما هو مقتضى مَنْطُوقِهِ، إلا إذا كان بشرط القطع، فإنه بعد القطع لا يبقى محلا للنزاع، فهو مستثنى عقلا‏.‏

والحاصلُ‏:‏ أنه عَمِلَ بمجموع المَفْهُومِ والمَنْطُوقِ، وخصَّص من المنطوق صورةً واحدةً بدلالة العقل‏.‏

وأمَّا مذهبُ الحنفية على ما فصَّله صاحب «الهداية»، فهو‏:‏ أن البيعَ بشرط القطع جائزٌ في الفصلين، كما أن البيعَ بشرط الترك فاسدٌ في الفصلين‏.‏ أمَّا إذا كان بشرط الإِطلاق، فهو جائزٌ في الصورتين، إلا أن البائعَ إن أمر المشتري بقطع ثماره وَجَبَ عليه قطعه، وتفريغ مِلْكه على الفور‏.‏ وحينئذٍ يَلْغُو قيد قبل البُدُوِّ في النصِّ، ولا تَظْهَرُ له فائدةٌ‏.‏ فإن الحكمَ عند وجوده، وعدمه سواء عندنا من غير فرقٍ‏.‏ فَوَرَدَ علينا الحديثَ مفهومًا ومنطوقًا‏.‏ وما أَجَابَ به بعضُهم‏:‏ أن المفهومَ ليس بحُجَّةٍ عندنا، ليس بشيءٍ، لما مرَّ منا تحقيقُ الكلام في المفهوم، فإنه يَحْتَاجُ إلى بيان نُكْتَةٍ لا مَحَالة، وإن لم يكن مَدَارًا للمسألة‏.‏

وقد أجاب عنه الطَّحَاويُّ بنحوين‏:‏ أما الأول، فحاصله‏:‏ أن الحديثَ لم يَرِدْ في تلك التفاصيل، فإنه وَرَدَ في النهي عن البيع قبل البُدُوِّ شفقةً، وإن جاز شرعًا في بعض الصْوَرِ، لأنه قد يُفْضِي إلى تلف مال المشتري، فيقوم بلا مالٍ ولا مبيعٍ‏.‏ كما أنه لو باعه قبل البُدُوِّ وأصابته عاهةٌ، فاجْتَاحَتْ الثمار، بقي المشترى ولا مالَ له ولا ثمارَ، فنهى عنه لذلك‏.‏ فليس هذا الحديث مُتَعَرِّضًا إلى الصُوَر المذكورة، فَلْيَكِلْها إلى الاجتهاد أو غيره‏.‏

أما الثاني، فبيانه‏:‏ أن الحديثَ ورد في السَّلَم، ذلك لأن أهلَ المدينة قبل مقدمه صلى الله عليه وسلّم كانوا يُسْلِفُون في الثمار لسنةٍ أو سنتين، فنهى عن ذلك، إلا أن يُسْلِفُوا في كَيْلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجل معلومٍ‏.‏ ويُشْتَرَط في بيع السلم وِجْدَانُ المبيع من حين العقد إلى وقت التسليم عندنا أيضًا، فلا بُدَّ أن يكونَ بعد البُدُوِّ، والأمن عن العاهات‏.‏ والحاصلُ‏:‏ أن النهي عن البيع قبل البُدُوِّ ليس في البَيَاعَات العامة، بل في السَّلَم خاصةً‏.‏ ولا نُنْكِرَ فيه بمَنْطُوقِ الحديث، ولا بمفهومه، فكأن الحديثَ من بابٍ، وحَمَلُوه على بابٍ، فَأَوْجَبَ فساد المعنى‏.‏

هذا، والذي ظَهَرَ لي في جوابه على ما قرَّره صاحب «الهداية» من المذهب‏:‏ أن البيعَ بشرط القطع خارجٌ عن مدلول الحديث، فإن البائِعَيْن إذا رَضِيَا بأمرٍ لم يَدْخُل فيه الشارعُ، ولا تعرَّض إليه‏.‏ فبقيت فيه أربع صُوَرٍ‏:‏ بشرط الإِطلاق، وبشرط الترك قبله، أو بعده‏.‏ أمَّا البيعُ بشرط الإِطلاق، فهو راجعٌ إلى القسم الأول، أي البيع بشرط القطع، لأنه إطلاقٌ في اللفظ فقط‏.‏ ولا يكون في الخارج إلا القطع أو الترك، فإن أَمَرَهُ البائعُ وَج عليه القطعُ، على ما مرَّ، فَيَرْجِعُ إلى القسم الأول، وإلا يَنْدَرِجُ في الثاني‏.‏

أمَّا البيعُ بشرط الترك، فهو غير جائزٍ في الفصلين، وذلك لاشتماله على شرطٍ فيه نفعٌ لأحد المُتَعَاقِدَيْن، وكلُّ شرطٍ كذلك، فهو مُفْسِدٌ للبيع، فهذا أيضًا مُفْسِدٌ له، سواء كان قبل البُدُوِّ أو بعده‏.‏ بقي قيد‏:‏ «قبل البُدُوِّ» في الحديث، فنقول‏:‏ إنه ليس بِمَنَاطٍ للحكم‏.‏ ولكن المعروفَ عندهم في بيع الثمار كان قبل البُدُوِّ، فجاء تَبَعًا للواقع، لا لكونه مَدَارًا‏.‏ وأما الجوابُ على ما ذهب إليه السَّرَخْسِيُّ، وغيره من الفصل في صورة الإِطلاق، فالجوابُ‏:‏ أن البيعَ بشرط القطع، فهو مستثنىً عقلا، كما أقرَّ به الشافعيُّ أيضًا‏.‏ وأمَّا البيعُ بشرط الترك، فغيرُ جائزٍ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم «نهى عن بيعٍ وشرطٍ»‏.‏ بقي البيعُ بشرط الإِطلاق، فهو جائزٌ بعد البُدُوِّ لا قبله، وهو محمل الحديث، فقد علَمْنا بمَنْطوقِهِ ومفهومه أيضًا‏.‏

وحاصلهُ‏:‏ أن الصورةَ الواحدةَ، وهي صورة القطع، مستثناةٌ عقلا بلا نزاع بين الفريقين‏.‏ أمَّا صورةُ الترك، فادَّعَيْنَا استثناءها من أجل الحديث‏:‏ «نهى عن بيعٍ وشرطٍ»، فلم تَبْقَ تحته إلا صورةٌ واحدةٌ، واشتركنا فيها معهم في الحكم مَنْطُوقًا ومفهومًا‏.‏ وهي التي تُنَاسِبُ أن تكونَ محملا للحديث، لأن المعروفَ في البيوع هو الإِطلاق، أما التركُ والقطعُ فمفروضان، وحَمْلُه على المعروف أَوْلَى من حمله على المفروض‏.‏

قال صاحبُ «الهداية»‏:‏ إن باعه بشرط الإِطلاق، وأجاز بعده بالترك، طاب الفَضْل للمشتري‏.‏ وقال الشاميُّ‏:‏ إنما يَطِيبُ له ذلك إذا لم يكن التركُ مشروطًا في العقد، ولا معروفًا بين الناس، وإلا فالمعروف كالمشروط‏.‏

قلتُ‏:‏ وتفصيل الشاميِّ ليس بمختارٍ عندي، فيجوز له الفَضْلُ، وإن كان الترك معروفًا، ولا يكون كالمشروط‏.‏ وإنما دعاني إلى ترك تفصيله ما حرَّره ابن الهُمَام في ذيل سؤالٍ وجوابٍ من هذا المقام‏.‏ ويَظْهَرُ منه كونه طيبًا بدون فصلٍ، فراجعه من هذا الباب‏.‏ وكذا نقل الحافظُ ابن تَيْمِيَة، عن أبي حنيفة في «فتاواه» ما حاصله ما في «الهداية»، فتفصيلُ الشاميِّ غيرُ مختارٍ عندي‏.‏

والحاصلُ‏:‏ أن الشرطَ إذا لم يكن في العقد، ولم يأْمُرْه البائعُ بالقطع طاب له تركه، سواء كان معروفًا أو لا‏.‏ ولا ألتفتُ إلى ما قاله الشاميُّ‏:‏ إن المعروفَ كالمشروط بعد ما وجدتُ روايةً عن الإِمام عند الحافظ ابن تيمية في «فتاواه»‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

باب‏:‏ إِذَا بَاعَ الثِّمارَ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاحُهَا ثُمَّ أَصَابَتْهُ عاهَةٌ فَهُوَ مِنَ البَائِع

‏(‏الجوائع‏)‏

هو مذهبُ الشافعيِّ‏.‏ ومن جوَّز من الحنفية بيعَ الثمار قبل البُدُوِّ، فقد فَصَلَ فيه، وقال‏:‏ إن هَلَكَتْ بعد التَّخْلِية بين بين الثمار والمشتري، هَلَكَتْ من مال المشتري‏.‏ وإن هَلَكَتْ قبلها، هلكت من مال البائع‏.‏ وقال مالك في «موطئه»‏:‏ والجائحةُ التي تُوضَعُ عن المشتري الثُّلُث فصاعدًا، ولا تكون فيما دون ذلك جائحةً‏.‏ اهـ‏.‏ فجعل الثُّلث على المشتري، ودونه على البائع‏.‏ وعند أبي داود‏:‏ عن يحيى بن سعيد أنه قال‏:‏ لا جائحةَ فيما أُصِيبَ دون ثُلُث رأس المال‏.‏ قال يحيى‏:‏ وذلك في سُنَّة المسلمين‏.‏ اهـ‏.‏ فراجع الطحاويَّ‏.‏

باب‏:‏ شِرَاءِ الطَّعَامِ إِلَى أَجَل

يعني اشترى طعامًا، ولم يُؤَدِّ ثمنه، فهو بيعٌ مطلقٌ، لا أنه سَلَمٌ، كما فُهِمَ‏.‏

باب‏:‏ إِذَا أَرَادَ بَيعَ تَمْرٍ بِتَمْرٍ خَيرٍ مِنْه

2201- 2202- قوله‏:‏ ‏(‏بِعِ الجَمْعَ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، أي التمر المختلط‏.‏ واعلم أنه لا عِبْرَةَ باختلاف الأصناف في الأموال الرِّبَوِيَّةِ، فجيدها ورديئها سواء‏.‏ ثم في الحديث دليلٌ على جواز الحِيَل ونفاذها، مع أنه قد وَرَدَ عنها النهي أيضًا‏.‏ والصواب‏:‏ أن فيها تقسيمًا على الحالات، فَيَجُوزُ البعض دون البعض‏.‏

باب‏:‏ مَنْ باعَ نَخْلا قَدْ أُبِّرتْ، أَوْ أَرْضًا مَزْرُوعَةً، أَوْ بِإِجارَة

باب‏:‏ بَيعِ الزَّرْعِ بِالطَّعَامِ كَيلا

أي باع الزرع والحقل‏.‏

2203- قوله‏:‏ ‏(‏قد أُبِّرَتْ لم يُذْكَرِ الثمرُ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، أي لم يُذْكَرْ لمن يكون له الثمر‏.‏ ذهبَ الشافعيُّ إلى ظاهر الحديث، واختار مَنْطُوقَ الحديث ومفهومه، فجعل الثمار قبل التأبير للمشتري، وبعده للبائع‏.‏ وجعلها أبو حنيفة للبائع في الحالين‏.‏ وما أَجَابَ به المُحَشُّون من أنه لا عِبْرَةَ بمفهوم المُخَالِف ليس بشيءٍ‏.‏ والصوابُ ما أجاب به الطِيبيُّ في «شرح المشكاة»، وهو شافٍ، فقال‏:‏ إن التأبيرَ عند الإِمام كنايةٌ عن ظهور الثمار، فإنهم لم يكونوا يُؤَبِّرُونها إلا بعد ظهورها‏.‏ وعلى هذا لا تكون لها قبل التأبير ثمارٌ، فإذا أُبِّرَتْ- ولا يكونُ ذلك إلا بعد ظهور الثمار- فهي للبائع بنصِّ الحديث‏.‏

باب‏:‏ بَيعِ النَّخْلِ بِأَصْلِه

يعني باعَ الثمارَ، وباع معها النخلَ أيضًا‏.‏

باب‏:‏ بَيعِ المُخاضَرَة

أي بيع الزرع الأخضر، وهو منهيٌّ عنه، كالبيع قبل بُدُوِّ الثمار‏.‏

باب‏:‏ بَيعِ الجُمَّارِ وَأَكْلِه

والجُمَّارُ لبٌّ يَخْرُجُ في رأس النخل، يُؤْكَلُ، ولا يُثْمرُ الشجرُ بعده‏.‏

باب‏:‏ مَنْ أَجْرَى أَمْرَ الأَمْصَارِ عَلَى ما يَتَعَارَفُونَ بَينَهُمْ في البُيُوعِ وَالإِجارَةِوَالمِكْيَالِ وَالوَزْنِ وَسُننِهِمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ وَمَذَاهِبِهِم المَشْهُورَة

قوله‏:‏ ‏(‏ومَذَاهِبهم المَشْهُورَةِ‏)‏أي التعامل‏.‏ وحاصلُه‏:‏ أن ما تَعَارَفَ بينهم في المكيال والميزان وغيرهما يُعْتَبَرُ به، وإن لم يكن مُطَّرِدًا‏.‏ ولكن هناك جزئيات اعْتَبَرَ فيها العُرْف، كما في «الهداية»‏:‏ إذا اختلفت النقودُ تُحْمَلُ على غالب نقد البلد‏.‏ فالمصنِّفُ ترجم على أصله‏:‏ «لا بأس، العشرةُ بأَحَدَ عَشَرَ، يعني إذا تلفَّظ بالعشرة، وأراد منه أحد عشرة على العُرْفِ، جَازَ له‏.‏ وراجع الهامش، فقد أوضحه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويَأْخُذُ للنَّفَقَةِ‏)‏‏(‏لا كت‏)‏ ربحًا، أي في البيع المُرَابحة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولم يُشَارِطْهُ، فبَعَثَ إليه بنِصْفِ دِرْهَمٍ‏)‏ والدانق‏:‏ سُدُس الدِّرْهَم، فنِصْفُ دِرْهَمٍ‏:‏ ثلاث دَوَانقٍ‏.‏ وقد كان استأجره بدَنِقَيْن، فَزَادَهُ واحدًا مروءةً‏.‏

وحاصلُه‏:‏ أن البيعَ، كما يَصِحُّ بالتعاطي، كذلك الإِجارة أيضًا، وهو المذهب عندنا‏.‏

2210- قوله‏:‏ ‏(‏وأَمَرَ أَهْلَهُ أن يُخَفِّفُوا عنه من خَرَاجِهِ‏)‏، واعلم أن هذا باب لا يَدْخُلُ فيه القضاء‏.‏ وقلَّ من توجَّه إلى هذا الباب أحدٌ، مع أنه يُوجَدُ في الأحاديث كثيرًا، فيكون أمرًا صحيحًا في الخارج، ثم لا يتأتَّى على قواعد الفِقْهِ، وذلك لأن الناسَ كثيرًا ما يتعاملون فيما بينهم، ويُسَامِحُون فيه، ولا يتنازعون بشيءٍ‏.‏ وقد يجوز ذلك في نظر الشارع أيضًا، إلا أن الفقهاءَ لا يتعرَّضُون إليه لكونه من الديانات عندهم، وجلُّ أحكامهم من باب القضاء‏.‏ ومن لا خِبْرَةَ له بذلك يظنُّها خلاف الفِقْهِ، ولا يدري أن ما ذُكِرَ في الفقه هو حكم القضاء، وذلك في الدِّيَانة، وقد أوضحنا الفرق بينهما‏.‏

ثم إن بعضهم زَعَمَ أن الفرقَ بينهما إنما يَظْهَرُ في المعاملات دون العبادات، وليس كذلك‏.‏ لما في باب القراءة من «الدر المختار»‏:‏ أن فرضَ القراءة آيةٌ، وأقلُّها ستةُ أحرف‏.‏ فإن كانت الآية كلمة فقط، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُدْهَآمَّتَانِ‏}‏ ‏(‏الرحمن‏:‏ 64‏)‏ لا تُجْزِئُه عن فرضها، إلا أن يَحْكُمَ به الحاكمُ‏.‏ مثلا‏:‏ لو قال رجلٌ‏:‏ إن قَرَأتُ قدر الفريضة، فعبدي حرٌّ، فقرأ ‏{‏مُدْهَآمَّتَانِ‏}‏، فادَّعى العبدُ عِتْقَه، وأنكره المولى، فرافع العبدُ إلى القاضي، فإن قَضَى بجوازها عُتِقَ العبد، وتَصِحُّ صلاته تلك، وإن لم تَصِحَّ غيرها‏.‏ وهذه تَدُلُّ على أن الفرقَ بين القضاء والديانة قد اعْتُبِرَ في باب العبادات أيضًا، فاعلمه‏.‏

وبالجملة باب المُسَامَحَات والمروءات مفقودٌ من الفِقْهِ، مع كونه أهم‏.‏ ومن هذا الباب واقعةُ ليلة البعير، فإنه وإن كان بيعًا أولا، لكنه هِبَةً آخرًا‏.‏ فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أَضْمَرَ فيها أولا ما أَظْهَرَهُ آخرًا‏.‏ وهو‏:‏ رَدُّ بعيره عليه، مع إعطاء الثمن من عنده، لِيَخْلُصَ له بعيره وثمنه، فكأنه أراد به الإِعانةَ بهذه الشاكلة‏.‏ ولعلَّ في مثل هذه البيوع لا تُرَاعَى شروط البيوع، ولذا أقول فيما أظنُّ- والله تعالى أعلم ‏:‏ إن من البيوع الفاسدة ما لو أتى بها أحدٌ جَازَتْ دِيَانةً، وإن كانت فاسدةً قضاءً‏.‏ وذلك لأن الفسادَ قد يكون لحقِّ الشرع، بأن اشتمل العقدُ على مَأْثَم، فلا يجوز بحالٍ‏.‏ وقد يكون الفسادُ لمخافة التنازع، ولا يكون فيه شيءٌ آخر يُوجِبُ الإِثم، فذلك إن لم يَقَعْ فيه التَّنَازُعُ جاز عندي دِيَانةً، وإن بقي فاسدًا قضاءً، لارتفاع عِلَّة الفساد، وهي المُنَازَعةُ‏.‏ ويَدُلُّ عليه مسائلهم في باب المضاربة، والشركة، فإنها ربما تكون فاسدةً مع أن الرِّبْحَ يكون طيِّبًا، وراجع «الهداية»‏.‏

ونبَّه الحافظُ ابن تيمية في رسالته على أن من البيوع ما لا يَقَعُ فيها النِّزَاع، فتكون تلك جائزةً، فإذا أدخلتها في الفِقْهِ وجدتها محظورةً، لأن أكثرَ أحكام الفِقْهِ تكون من باب القضاء، والدياناتُ فيها قليلةٌ‏.‏ وإنما يُصَارُ إلى القضاء بعد النزاع، فإذا لم يَقَعْ النِّزَاع، ولم يُرْفَعْ الأمرُ إلى القاضي، نزل حكم الديانة لا مَحَالة، فيبقى الجواز‏.‏

باب‏:‏ بَيعِ الشَّرِيكِ مِنْ شَرِيكِه

باب‏:‏ بَيعِ الأَرْضِ وَالدُّورِ وَالعُرُوضِ مُشَاعًا غَيرَ مَقْسُوم

وهذا البيعُ جائزٌ عندنا، ولا يَضُرُّه الشيوعُ، بخلاف هِبَة المُشَاع‏.‏

فائدة‏:‏ وعبد الرحمن هذا مدنيٌّ من تعليقات البخاري، دون الواسطيّ، فإنه ضعيفٌ‏.‏

باب‏:‏ إِذَا اشْتَرَى شَيئًا لِغَيرِهِ بغَيرِ إِذْنِهِ فَرَضِي

أشار إلى جواز بيع الفضوليِّ، ووافق فيه أبا حنيفة‏.‏ وكذلك الحكمُ في شراء الفضوليِّ بعد لُحُوق الإِجازة عنده‏.‏ وهذا الباب معدومٌ عند الشافعيِّ، فلا اعتداد لبيع الفضوليِّ عنده، ولا لشرائه، ولو لَحِقَتْهُ الإِجازةُ‏.‏

2215- قوله‏:‏ ‏(‏والصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عند رِجْلَيَّ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏ وهذا عملٌ غيرُ صالح في الظاهر، كيف وأنه ظَلَمَ على الصبيان الصغار المَعْصُومِين، فلم يُسْقِهِمْ لبنًا، وهو ساغبون‏.‏ نعم نيتُه كانت صالحةً، فأُجِرَ عليها، ولا بُعْدَ أنه لو كان من أهل علمٍ لأُخِذَ عليه، وعُوقِبَ به، فإن صلاحَ النية مع فساد العمل إنما يعتدُّ من جاهلٍ، وقد نبَّهناك غير مرةٍ على أن هذا أيضًا باب في الشرع غَفَلَ عنه الناسُ، أي القَبُولِيَّةُ بحُسْنِ النية، مع الخطأ في العمل‏.‏ وأسمِّيه صالحًا سفيهًا ‏(‏نيك بخت بيوقوف‏)‏، فإن السفاهةَ قد تَدْعُو إلى مثل هذا الغلوِّ والمبالغة التي لم تُكْتَبْ عليه‏.‏

2215- قوله‏:‏ ‏(‏اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا‏)‏‏.‏ واخْتُلِفَ في أنه إن تصرَّف في مال غيره، ثم رَبِحَ فيه، هل يَطِيبُ الربح للمتصرِّف، أو يكون لصاحب المال‏؟‏ فذهب أبو حنيفة، ومحمد رحمهما الله إلى أن المالَ إن كان من جنس النقدين طاب للمتصرِّف، وإن كان من القروض فهو أيضًا يَمْلِكُهُ، لكن بِمِلْكٍ خبيثٍ، إلا أن خُبْثَه لحقِّ الغير، فلا يَظْهَرُ في حقِّه‏.‏

ونُقِلَ عن أبي يوسف‏:‏ أن الربحَ يكون للمتصرِّف في الفصلين بلا خُبْثٍ‏.‏ وحُكِيَ عنه أنه كان يتَّجِرُ في أموال اليتامى في زمن قضائه، فَيَرْبَحُ فيه، فيجعل الأصلَ محفوظًا على حاله، ويأخذ الربحَ لنفسه‏.‏ واعْتَرَضَ عليه بعضُ من لا فِقْهَ له في الدين، ورَمَاه بأنه كان يَأْكُلُ أموال اليتامى، وحَاشَاهُ أنه يَهِمَّ به‏.‏ ولكنه عَمِلَ بما عمل به أبو موسى من قبله‏.‏

ففي «الموطأ» لمالك في باب ما جاء في القراض‏:‏ مالك، عن زَيْد بن أسلم، عن أبيه أنه قال‏:‏ «خرج عبد الله، وعُبَيْد الله ابنا عمر ابن الخطاب في جيشٍ إلى العراق، فلمَّا قَفَلا مَرَّا على أبي موسى الأشعريَّ- وهو أميرُ البَصْرَة- فَرَحَّبَ بهما، وسَهَّلَ، ثم قال‏:‏ لو أَقْدِرُ لكما على أمر أَنْفَعُكُمَا به لَفَعَلْتُ، ثم قال‏:‏ بلى، ههنا مالٌ من مال الله أُرِيدُ أن أَبْعَثَ به إلى أمير المؤمنين فَأُسْلِفُكُمَاة، فتبتاعان به متاعًا من متاع العِرَاق، ثم تَبِيعَانِهِ بالمدينة‏.‏ فَتُؤَدِّيَانِ رأسَ المال إلى أمير المؤمنين، فيكون لكما الربحُ‏.‏ فقال‏:‏ وَدِدْنَا، ففعل وكتب إلى عمر بن الخطَّاب أن يأْخُذَ منهما المال‏.‏ فلمَّا قَدِمَا باعا، فَربِحَا‏.‏ فلما رَفَعَا ذلك إلى عمر ابن الخطَّاب، فقال‏:‏ أَكُلُّ الجيش أَسْلَفَهُ مثل ما أَسْلَفَكُمَا‏؟‏ قالا‏:‏ لا‏.‏ فقال عمر بن الخطَّاب، ابنا أمير المؤمنين فأَسْلَفَكُمَا، أدِّيَا المالَ ورِبْحَه‏.‏ فأمَّا عبد الله فَسَكَتَ، ورَاجَعَهُ عُبَيْد الله‏.‏ فقال رجلٌ من جُلَسَاء عمر‏:‏ ياأمير المؤمنين، لو جَعَلْتَهُ قِرَاضًا‏.‏ فقال عمر‏:‏ جَعَلْتُهُ قِرَاضًا- أي مُضَارَبةً- فأخذ عمر رأس المال ونِصْفَ رِبْحِهِ، وأخذ عبد الله، وعُبَيْد الله نِصْفَ رِبْحِ المال»‏.‏

ففيه دليلٌ على جواز الاكتساب من مال الله عند أبي موسى، وتقريرٌ من عمر، فإنه لم يَقْدَحْ في إسلافه، ولكنه خَشِيَ أن يكونَ ذلك رُشْوَةً، لأنهما كانا ابناه، فقال ما قال‏.‏

ونقل في «الدر المختار»‏:‏ أن أبا يوسف كان يبكي حين احْتَضَرَ، وكان يذكر أن ذِميًّا ادَّعَى على الرشيد أمير المؤمنين، فَرَاعَيْتُ الذِمِّيُّ، وكان يقول‏:‏ إنه لم يُخْطِىء في غير ذلك فيما يظنُّ‏.‏

قلتُ‏:‏ ولو كانت الدنيا دَعَتْهُ إلى هذه الرعاية، لرجَّح أميرَ المؤمنين، ولكنه رجَّح الذميَّ عليه‏.‏ فَظَهَرَ أنها كانت لأمرٍ غير ذلك، فما ظنُّك برجلٍ هذا شأنه‏؟‏ ولكن من لا دينَ له يُرِيدُ أن يَصْرِفَ وجوه الناس إليه بكل حِيلةٍ‏.‏

باب‏:‏ الشِّرَاءِ وَالبَيعِ مَعَ المُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الحَرْب

يعني به أن اتحاد الملة ليس بشرط في البيع‏.‏

2216- قوله‏:‏ ‏(‏مُشْعَانٌّ‏)‏ أي مُسْتَنِدًا‏.‏

باب‏:‏ شِرَاءِ المَمْلُوكِ مِنَ الحَرْبِيِّ وَهِبَتِهِ وَعِتْقِه

وفيه مسألتان‏:‏ الأولى‏:‏ أن العبدَ هل يُمْكِنُ أن يكونَ تحت مُشْرِكٍ، فإن الظاهرَ يأباه، فإنه يكونُ بإِيجاف الخيل عليهم وأَسْرِهِمْ، وإحْرَازِهم إلى دار الإِسلام، ولا يُتَصَوَّرُ ذلك فيهم‏.‏ نعم يُمْكِنُ ذلك فيهم بطريق الغَصْب، ونحوه‏.‏

والثانيةُ أنه هل يَجُوزُ الشراء منه، وهل يَصْحُّ مْلْكُه عليه‏.‏ واعلم أنه لا استرقاقَ في رجال العرب عند أبي حنيفة، وليس فيهم إلا السيف، أو الإِسلام‏.‏ فإن ارتدَّ أحدٌ منهم، فهو واجبُ القتل‏.‏ نعم يجوز استرقاق ذُرِّيَّتهم‏.‏ ولا يَظْهَرُ ممَّا نَقَلَهُ البخاريُّ من القصة جواز الاسترقاق المُخْتَلَفِ فيه‏.‏ فإن مسألة الإِمام الأعظم فيما بعد الدورة الإِسلامية، وتلك قصةٌ ممن سَبَقَ قبلها، فلا حُجَّةَ فيها علينا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم لسَلْمَان‏:‏ كَاتِبْ، وكان حُرًّا، فَظَلَمُوه وباعُوه‏)‏ اهـ‏.‏ وعند البخاريِّ عن سلمان‏:‏ «أنه تَدَاوَلُه بضعة عشرة من ربًّ إلى ربًّ، اهـ‏.‏ وأنه لقي وصيَّ عيسى عليه الصلاة والسلام أيضًا، وذلك لأن زمن الفترة بين النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وبين عيسى عليه الصلاة والسلام خمس مئة وسبعون سنة- 570- على حساب التوراة، فعاش ذلك الوصيِّ إلى زمنٍ طويلٍ بعده عليه الصلاة والسلام، وعمر سَلْمَان كان مائتان وخمسون سنة، فَحَصَل اللقاء لطول العمرين‏.‏ وكان سلمان يَسِيحُ في الأرض لطلب دين الله حتى أُسِرَ، وجُعِلَ رقيقًا قبل مبعثه صلى الله عليه وسلّم ثم كان من أمره، كما في «شمائل الترمذي»، فإنه جاءه أول يومٍ بصدقةٍ، فلم يَقْبَلْهَا، ثم جاء بعده بهديةٍ فَقَبِلَها، وكان وُصِفَ به في التوراة، فأَسْلَم سَلْمَان، ثم أمره أن يُكَاتِبَ سلمانُ مولاه، فَقَبَلَهُ على أن يَغْرِسَ له سَلْمَان نخيلا حتى تُؤكَلَ‏.‏ فَغَرَسَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بيده الكريمة نخيلا غير نخلةٍ، فأَثْمَرَتْ كلُّها غير تلك‏.‏ ففتش عنها، فعلم أنه غَرَسَهَا عمر‏.‏ فَغَرَسَهَا ثانيًا بيده الكريمة، فأَثْمَرتْ أيضًا من تلك السنة، فعُتِقَ على ذلك‏.‏

وغرضُ البخاريِّ‏:‏ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لمَّا أمره أن يُكَاتِبَ من اليهوديِّ عَلِمَ أنه قرَّر مِلْكَهُ عليه‏.‏ وعند أبي داود ما يَدُلُّ على أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لم يتعرَّض إلى معاملات الجاهلية، وقال‏:‏ «ما كان من قسم الجاهلية فعلى ما كان، وأمَّا ما أوجده الإِسلامُ، فيكون كما حَكَمَ به»‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَهُمْ فِيهِ سَوَآء‏}‏ ‏(‏النحل‏:‏ 71‏)‏أي ليسوا بسواءٍ، وذكر الزَّجَّاج‏:‏ أن الجملةَ الاسميةَ قد تَجِيء لمعنى الإِنكار أيضًا‏.‏

2217- قوله‏:‏ ‏(‏فَقامَتْ تَوَضَّأُ وتُصَلِّي‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، دَلَّ على أن الوضوءَ كان في الأمم السالفة أيضًا، وكذا الصلاة‏.‏

2217- قوله‏:‏ ‏(‏وأَخْدَمَ وَلِيدَةً‏)‏ وهي هَاجَرَ عليها السلام، أم بني إسماعيل‏.‏

واعلم أن التحقيق‏:‏ أن هَاجَرَ عليها السلام لم تَكُنْ أَمَةً، بل كانت بنتًا للملك، وكان هذا الملك من ذُرِّيَّة سام بن نوح عليه الصلاة والسلام‏.‏ وأمَّا أهلُ مصره فكانوا من ذُرِّيَّة حام، فكان يُحِبُّ أن يُزَوِّجَ ابنته رجلا من أسرته، حتى إذا مرَّ به إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام مع زوجته سارة،- وكان من سام- فأَسَرَهَا، وأراد بها ما أراد‏.‏ فلمَّا رَدَّ اللهاُ كَيْدَه في نحره، تفطَّن أن زوجَها مقرَّبٌ من المقرَّبين، فأراد أن يُنْكِحَهُ ابنته‏.‏ ومن دَأْبِ الناس أنهم إذا أرادوا أن يُنْكِحُوا بناتهم أحدًا يقولون مثل هذه الكلمات، هَضْمَا لأنفسهم، فيقولون‏:‏ نُعْطِيكَ وليدةً‏.‏ فهذا العُرْف قد جرى في الحرائر أيضًا، لا سِيَّما إذا ظنَّه مُقَرَّبًا، فَنَاسَبَ أن يقول‏:‏ وليدةً‏.‏

هكذا حقَّقه عالمٌ من جريا كوت حين أمره بعضٌ من المتنوِّرين من بلادنا أن يُؤَلِّفَ رسالةً على هذا الموضوع‏.‏ وإنما حَمَلَهُ على ذلك الظنّ بأن في التوراة أن أولادَ الإِماء يكون محرومَ الإِرث، لا يَرِثُ مالا ولا نُبُوَّةً‏.‏

قلتُ‏:‏ أمَّا ما حقَّقه في هَاجَرَ عليها السلام، فهو صوابٌ‏.‏ وأمَّا ما ذكره من قصة حرمان الإِرث، فليس بصحيحٍ‏.‏ فإنه لا لُزُومَ بين حرمان الإِرث، والحرمان عن النُّبُوة‏.‏ ولو سلَّمناه، فلا يَلْزَم أن تُحْرَمَ الذُّرِّيةُ بأسرها من النُّبُوة، على أن في التوراة وَصْفَ إسماعيل عليه الصلاة والسلام أزيدُ من وصف إسحاق عليه السلام، بل فيه‏:‏ إني سأبعث من ذريته‏:‏ ‏(‏بارامير‏)‏‏.‏

2219- قوله‏:‏ ‏(‏ولكِنِّي سُرِقْتُ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، كان صُهَيْب من العرب، واسْتُرِقَّ في صباه ظلمًا، فكان في العجم إلى زمنٍ، ولذا تغيَّر لسانهُ، ولذا اعتذر عنه‏.‏

باب‏:‏ جُلُودِ المَيتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغ

وهذا البيع لا يَجوزُ عندنا، كما في «الهداية»‏.‏

باب‏:‏ قَتْلِ الخِنْزِير

2222- قوله‏:‏ ‏(‏حَكَمًا‏)‏، أي لا يكون نبيًّا، ثم إنه يكون حَكَمًا بين اليهود والنصارى‏.‏ أمَّا اليهودُ فيقتلهم، وأمَّا النصارى فَيُؤمِنُونَ به‏.‏

2222- قوله‏:‏ ‏(‏مُقْسِطًا‏)‏، أي من يزيل الجَوْر‏.‏

2222- قوله‏:‏ ‏(‏فيَكْسِرَ الصَّلِيبَ‏)‏، لأنه رَاجَ الصليبُ باسمه‏.‏

2222- قوله‏:‏ ‏(‏يَقْتُلَ الخِنْزِيرَ‏)‏، لأنه استحلَّه النصارى، مع أنه حرامٌ في شرعنا، وكذا في شرع عيسى عليه الصلاة والسلام أيضًا‏.‏ وما في بعض كُتُبِنَا أنه كان حلالا فيهم، فليس بصحيحٍ‏.‏ بل الأصلُ أنه حَرُمَ عليهم كل ذي ظُفُرٍ، كما في نصِّ القرآن‏.‏ فاختلفوا في تأويله، فظنَّ النصارى أن الخنزيرَ ليس منه، فجعلوه حلالا من اجتهادهم الفاسد، لا أنه كان حلالا في شرعهم‏.‏

2222- قوله‏:‏ ‏(‏يَضَعَ الجِزْيَةَ‏)‏، وهذا تشريعٌ من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لزمنه‏:‏ أن لا يكونَ فيه إلا الإِسلام، أو السيف، فلا يَلْزَمُ النسخ‏.‏ ثم الدنيا لمَّا كانت في زمنه على شرف الزوال، نَاسَبَ أن تَسْقُطَ الجِزْيَةُ، ولا يبقى إلا الإِسلام، أو السيف‏.‏ ومن ههنا تبيَّن الحكمة في نزول عيسى عليه الصلاة والسلام، ووظائفه التي يَنْزِلُ لها‏.‏

وحاصلُه‏:‏ أنه لا يَنْزِلُ بوظائف النبوة، ولا يَلْزَمُهُ سلب النبوة عنه، فإنه كان رسولا إلى بني إسرائيل بالنصِّ‏.‏ ونزولُهُ فينا، كدخول يعقوب عليه الصلاة والسلام مصر في نبوة يوسف عليه السلام‏.‏ وأمَّا لعين القاديان الشقي المتنبِّىء الكاذب، فلم يُوجَدْ فيه شيءٌ من ذلك، لم يَحْكُمْ بين اليهود والنصارى بشيءٍ، بل أَكْفَرَ المسلمين، وأَعَانَ الصليبَ، وجمع المالَ حتى ذاق طينة الخَبَال، فكيف يدَّعي أنه عيسى‏؟‏‏.‏

ثم اعلم أن الحديثَ لم يُخْبِرْ بأن الإِسلامَ يُحِيطُ في زمنه على البسيطة كلِّها، كيف ولا يُدْرَى أنه يَمْزِلُ بكلِّ بلدٍ‏.‏ ولكنه- والله تعالى أعلم- يَشِيعُ الإِسلامُ حيث يكون عليه الصلاة والسلام‏.‏ فما أَخْبَرَ به الحديث إنما هو شيوع الإِسلام بموضع نزوله وتَطْوَافِهِ، وأمَّا في غير ذلك، فالله أعلم بحاله، ما يكون فيه‏.‏ لا أقول‏:‏ إن الإِسلامَ لا يكون في جميع الأرض، ولكن أقول‏:‏ إن الأحاديثَ لم تَرِدْ به‏.‏ فذا أمرٌ تحت أستار الغيب بعدُ، فجاز أن لا يبقى في الأرض كلِّها إلا الإِسلام، وجاز أن تَكونَ تلك الغلبة الموعودة بمكان نزوله وحَوَالَيْهِ فقط‏.‏

أمَّا مُكْثُهُ عليه الصلاة والسلام بعد النزول، فالصوابُ عندي فيه أربعون سنةً، كما عند أبي داود‏:‏ «فيَمْكُثُ في الأرض أربعين سنةً، ثم يتوفَّى، فيصلِّي عليه المسلمون»‏.‏ اهـ‏.‏ وأمَّا ما تُوهِمُهُ رواية مسلم‏:‏ «أنه يَمْكُثُ في الأرض سبع سنين»، فهو مدَّة مُكْثِهِ مع الإِمام المهدي، كما عند أبي داود‏:‏ «وبعد تمام سبع سنين يتوفّى الإِمام، ويَبْقَى عيسى عليه الصلاة والسلام بعد ذلك ثلاثًا وثلاثين سنةً»‏.‏

وأمَّا رَفْعُهُ، فكان على ثمانين سنة، وصحَّحه الحافظ في «الإِصابة»، وهو الذي رجع إليه السيوطي في «مرقاة الصعود»‏.‏

وأمَّا مجموع عمره عليه الصلاة والسلام فمئةٌ وعشرون، نُبِّىءَ على أربعين منها، ورُفِعَ على ثمانين، ويَمْكُثُ في الأرض أربعين‏.‏ وقد مَضَى منها ثمانون، فبَقَيَ أربعون‏.‏ وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلّم «وإن عيسى عليه الصلاة والسلام عاش مئةً وعشرين، ولا أُرَاني ذاهبًا إلا على ستين»- بالمعنى ، يعني به نصف مجموع عمر عيسى عليه الصلاة والسلام‏.‏ وإنما قال‏:‏ «عاش»- بصيغة الماضي- لكون أكثره ماضيًا، ونزولُه معلومًا‏.‏ وإنما لم يَفْصِلْ بين ثمانين وأربعين، لأن المقصودَ كان بيان التنصيف، والإِجمالُ في مثله شائعٌ‏.‏

ثم إن التنصيفَ باعتبار أُولِي العَزْمِ من الأنبياء عليهم السلام الذين جَرَى بذكرهم التأريخ، أو بحسب المجموع، لا بِحَسَبِ الأشخاص والأفراد، فاعلمه‏.‏ وهو الذي يُنَاسِبُ، فإن الحسابَ يكون باعتبار الوقائع المهمة، وبها يَنْضَبِطُ التاريخ‏.‏

باب‏:‏ لا يُذَابُ شَحْمُ المَيتَةِ وَلا يُبَاعُ وَدَكُه

الشحمُ‏:‏ ما كان مُنْفَصِلا عن اللحم، وما كان داخلا في اللحم، فهو وَدَكٌ‏.‏

2223- قوله‏:‏ ‏(‏بلغ عُمَرَ أن فُلانًا بَاعَ خَمْرًا‏)‏، وقصته أن سَمُرَة كان عَاشِرًا من جانب عُمَرَ، فمرَّ عليه الذميُّ بالخمر، فأخذ منه العُشْرَ، فَبَلَغَ ذلك عُمَرَ، وقال كما في الحديث‏.‏ وفيه زيادة ذكرها الحافظ في «الفتح»‏:‏ أن عمر قال‏:‏ «وَلُّوهم بيعَها»‏.‏ اهـ‏.‏ وهذا وإن كان في مسألة العُشْرِ، لكنه دَلَّ على أن مسلمًا لو وَكَّلَ ذميًا ببيع خمرٍ، طاب له ربحُهُ‏.‏

باب‏:‏ بَيعِ التَّصَاوِيرِ التَّيِ لَيسَ فِيهَا رُوحٌ، وَما يُكْرَهُ مِنْ ذلِك

باب‏:‏ تَحْرِيمِ التِّجَارَةِ في الخَمْر

واعلم أن مسألةَ فعل التصوير مسألةٌ أخرى‏.‏ وأمَّا مسألةُ المصوَّرَات، ففصَّلها الشيخُ ابن الهُمَام في «الفتح» على أحسن وجهٍ، وضَبَطَهَا في عِدَّة سطورٍ، فراجعها‏.‏

باب‏:‏ إِثْمِ مَنْ بَاعَ حُرًّا

2227- قوله‏:‏ ‏(‏أَعْطَى بي‏)‏، ولعلَّه يَنْسَحِبُ على العهود العامة أيضًا‏.‏

باب‏:‏ أمْرِ النبي صلى الله عليه وسلّم اليَهُودَ بِبَيعِ أَرَضِيهِمْ ودِمَنِهِمْ حِينَ أجْلاهُم

واعلم أن بني النَّضِير لمَّا أُجْلُوا، قيل لهم‏:‏ أن بيعُوا المنقولاتِ من أموالكم، وأمَّا الأراضي فهي لله ولرسوله، هكذا في كُتُبِ السِّيَرِ عامةً‏.‏ ويمكن أن يكونَ أَمَرَ بعضَهم ببيع الأراضي أيضًا، كما في ترجمة البخاريِّ‏.‏

باب‏:‏ بَيعِ العَبِيدِ وَالحَيَوَانِ بِالحَيَوَانِ نَسِيئة

باب‏:‏ بَيعِ الرَّقِيق

ويَجُوزُ بيعُ الحيوان بالمتعدِّد عندنا، لأنه ليس من الأموال الرِّبَوِيَّة، وهو قيميٌّ، وليس بمثليَ‏.‏ أمَّا إذا كان نَسِيئةً، فلا يجوز عندنا، سواء كان من الطرفين، أو عن طرفٍ‏.‏ وخَالَفَنَا الشافعيُّ في الثاني‏.‏ قُلْنَا‏:‏ إنه قيميٌّ، فلا يَصْلُحُ أن يكونَ واجبًا في الذِّمَّةِ، ولا بُدَّ من كونه مشارًا إليه، بخلاف المثليِّ، فإنه يَصْلُحُ أن يكونَ واجبًا في الذِّمَّة‏.‏ ولنا ما أخرجه الترمذيُّ، وصحَّحه‏:‏ «نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نَسِيئةً»‏.‏ قال الشافعيةَ‏:‏ هذا إذا كان نسيئةً من الطرفين‏.‏ قال مولانا شيخُ الهند‏:‏ وهذا ليس بسديدٍ، لأن كون المناطُ نسيئةً من الطرفين لم يتعرَّض له في هذا الحديث، بل هو مدلولُ حديث النهي عن الكاليء بالكاليء‏.‏ وإنما المناطُ في هذا الحديث كون الحيوانُ من الطرفين، مع كون واحدٌ منهما نسيئةً‏.‏ وإرجاعُ هذا إلى ذلك إلغاءٌ لأحد الحديثين، وحملُ الحديثين على المعنيين أَوْلَى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واشترى ابنُ عُمَرَ راحلةً بأربعةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ عليه، يُوفِيها صَاحِبَهَا بالرَّبَذَةِ‏)‏، قوله‏:‏ «مَضْمُونَةٍ عليه» يعني ‏(‏دَين دارهى أون أونتوكا‏)‏‏.‏ قلتُ‏:‏ والظاهر أن الأَبْعُرَةَ كانت متعيِّنةً موجودةً‏.‏ نعم القبضُ عليها كان بالرَّبَذَةِ، فهذا تَرَاخٍ في القبض، وليس البيعُ نسيئةً‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابنُ سِيرِينَ‏:‏ لا بَأْسَ بَعِيرٌ بِبَعِيرَيْنِ، ودِرْهَمٌ بدرهم نَسِيئَةً‏)‏‏.‏ قلتُ‏:‏ إن بيعَ الدِّرْهَم بالدِّرْهَمِ نسيئةً حرامٌ بالإِجماع، ولم يَشْرَحْ أحدٌ منهم ما أراد به ابن سِيرِين‏.‏ والوجهُ عندي أن يُقَالَ‏:‏ ءن قوله‏:‏ «نسيئة» يتعلَّق بالبعير والبعيرين، دون بيع الصَّرْف، فهو مطلقٌ، ولا ريب في جواز بيع الدرهم بالدرهم‏.‏ والذي صَرَفْنَا إليه قول ابن سِيرِين أَوْلَى من أن يُحْمَلَ على ما يُخَالِفُ الإِجماع‏.‏

2228- قوله‏:‏ ‏(‏كان في السَّبْي صَفِيَّةُ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، واشتراها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بست رؤوسٍ، وفيه الترجمة‏.‏